بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
بيان
قوله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم الناس ربما يعملون عملا أو يبتدئون في عمل و يقرنونه باسم عزيز من أعزتهم أو كبير من كبرائهم، ليكون عملهم ذاك مباركا بذلك متشرفا، أو ليكون ذكرى يذكرهم به، و مثل ذلك موجود أيضا في باب التسمية فربما يسمون المولود الجديد من الإنسان، أو شيئا مما صنعوه أو عملوه كدار بنوها أو مؤسسة أسسوها باسم من يحبونه أو يعظمونه، ليبقى الاسم ببقاء المسمى الجديد، و يبقى المسمى الأول نوع بقاء ببقاء الاسم كمن يسمي ولده باسم والده ليحيي بذلك ذكره فلا يزول و لا ينسى.
و قد جرى كلامه تعالى هذا المجرى، فابتدأ الكلام باسمه عز اسمه ليكون ما يتضمنه من المعنى معلما باسمه مرتبطا به، و ليكون أدبا يؤدب به العباد في الأعمال و الأفعال و الأقوال، فيبتدءوا باسمه و يعملوا به، فيكون ما يعملونه معلما باسمه منعوتا بنعته تعالى مقصودا لأجله سبحانه فلا يكون العمل هالكا باطلا مبترا، لأنه باسم الله الذي لا سبيل للهلاك و البطلان إليه.
و ذلك أن الله سبحانه يبين في مواضع من كلامه: أن ما ليس لوجهه الكريم هالك باطل، و أنه: سيقدم إلى كل عمل عملوه مما ليس لوجهه الكريم، فيجعله هباء منثورا، و يحبط ما صنعوا و يبطل ما كانوا يعملون، و أنه لا بقاء لشيء إلا وجهه الكريم فما عمل لوجهه الكريم و صنع باسمه هو الذي يبقى و لا يفنى، و كل أمر من الأمور إنما نصيبه من البقاء بقدر ما لله فيه نصيب، و هذا هو الذي يفيده ما رواه الفريقان عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر الحديث ".
و الأبتر هو المنقطع الآخر، فالأنسب أن متعلق الباء في البسملة أبتدىء بالمعنى الذي ذكرناه فقد ابتدأ بها الكلام بما أنه فعل من الأفعال، فلا محالة له وحدة، و وحدة الكلام بوحدة مدلوله و معناه، فلا محالة له معنى ذا وحدة و هو المعنى المقصود إفهامه من إلقاء الكلام، و الغرض المحصل منه.
و قد ذكر الله سبحانه الغرض المحصل من كلامه الذي هو جملة القرآن إذ قال: «تعالى قد جاءكم من الله نور و كتاب مبين يهدي به الله» الآية: المائدة - 16 إلى غير ذلك من الآيات التي أفاد فيها: أن الغاية من كتابه و كلامه هداية العباد، فالهداية جملة هي المبتدئة باسم الله الرحمن الرحيم، فهو الله الذي إليه مرجع العباد، و هو الرحمن يبين لعباده سبيل رحمته العامة للمؤمن و الكافر، مما فيه خيرهم في وجودهم و حياتهم، و هو الرحيم يبين لهم سبيل رحمته الخاصة بالمؤمنين و هو سعادة آخرتهم و لقاء ربهم و قد قال تعالى: «و رحمتي وسعت كل شيء و سأكتبها للذين يتقون»:. الأعراف - 156.
فهذا بالنسبة إلى جملة القرآن.
ثم إنه سبحانه كرر ذكر السورة في كلامه كثيرا كقوله تعالى: «فأتوا بسورة مثله»: يونس - 38.
و قوله: «فأتوا بعشر سور مثله مفتريات»: هود - 13.
و قوله تعالى: «إذا أنزلت سورة»: التوبة - 86.
و قوله: «سورة أنزلناها و فرضناها»: النور - 1.
فبان لنا من ذلك: أن لكل طائفة من هذه الطوائف من كلامه التي فصلها قطعا قطعا، و سمي كل قطعة سورة نوعا من وحدة التأليف و التمام، لا يوجد بين أبعاض من سورة و لا بين سورة و سورة، و من هنا نعلم: أن الأغراض و المقاصد المحصلة من السور مختلفة، و أن كل واحدة منها مسوقة لبيان معنى خاص و لغرض محصل لا تتم السورة إلا بتمامه، و على هذا فالبسملة في مبتدإ كل سورة راجعة إلى الغرض الخاص من تلك السورة.
فالبسملة في سورة الحمد راجعة إلى غرض السورة و المعنى المحصل منه، و الغرض الذي يدل عليه سرد الكلام في هذه السورة هو حمد الله بإظهار العبودية له سبحانه بالإفصاح عن العبادة و الاستعانة و سؤال الهداية، فهو كلام يتكلم به الله سبحانه نيابة عن العبد، ليكون متأدبا في مقام إظهار العبودية بما أدبه الله به.
و إظهار العبودية من العبد هو العمل الذي يتلبس به العبد، و الأمر ذو البال الذي يقدم عليه، فالابتداء باسم الله سبحانه الرحمن الرحيم راجع إليه، فالمعنى باسمك أظهر لك العبودية.
فمتعلق الباء في بسملة الحمد الابتداء و يراد به تتميم الإخلاص في مقام العبودية بالتخاطب.
و ربما يقال إنه الاستعانة و لا بأس به و لكن الابتداء أنسب لاشتمال السورة على الاستعانة صريحا في قوله تعالى: «و إياك نستعين».
و أما الاسم، فهو اللفظ الدال على المسمى مشتق من السمة بمعنى العلامة أو من السمو بمعنى الرفعة و كيف كان فالذي يعرفه منه اللغة و العرف هو اللفظ الدال و يستلزم ذلك أن يكون غير المسمى، و أما الإسلام بمعنى الذات مأخوذا بوصف من أوصافه فهو من الأعيان لا من الألفاظ و هو مسمى الاسم بالمعنى الأول كما أن لفظ العالم من أسماء الله تعالى اسم يدل على مسماه و هو الذات مأخوذة بوصف العلم و هو بعينه اسم بالنسبة إلى الذات الذي لا خبر عنه إلا بوصف من أوصافه و نعت من نعوته و السبب في ذلك أنهم وجدوا لفظ الاسم موضوعا للدال على المسمى من الألفاظ، ثم وجدوا أن الأوصاف المأخوذة على وجه تحكي عن الذات و تدل عليه حال اللفظ المسمى بالاسم في أنها تدل على ذوات خارجية، فسموا هذه الأوصاف الدالة على الذوات أيضا أسماء فأنتج ذلك أن الاسم كما يكون أمرا لفظيا كذلك يكون أمرا عينيا، ثم وجدوا أن الدال على الذات القريب منه هو الاسم بالمعنى الثاني المأخوذ بالتحليل، و أن الاسم بالمعنى الأول إنما يدل على الذات بواسطته، و لذلك سموا الذي بالمعنى الثاني اسما، و الذي بالمعنى الأول اسم الاسم، هذا و لكن هذا كله أمر أدى إليه التحليل النظري و لا ينبغي أن يحمل على اللغة، فالاسم بحسب اللغة ما ذكرناه.
و قد شاع النزاع بين المتكلمين في الصدر الأول من الإسلام في أن الاسم عين المسمى أو غيره و طالت المشاجرات فيه، و لكن هذا النوع من المسائل قد اتضحت اليوم اتضاحا يبلغ إلى حد الضرورة و لا يجوز الاشتغال بها بذكر ما قيل و ما يقال فيها و العناية بإبطال ما هو الباطل و إحقاق ما هو الحق فيها، فالصفح عن ذلك أولى.
و أما لفظ الجلالة، فالله أصله الإله، حذفت الهمزة لكثرة الاستعمال، و إله من أله الرجل يأله بمعنى عبد، أو من أله الرجل أو وله الرجل أي تحير، فهو فعال بكسر الفاء بمعنى المفعول ككتاب بمعنى المكتوب سمي إلها لأنه معبود أو لأنه مما تحيرت في ذاته العقول، و الظاهر أنه علم بالغلبة، و قد كان مستعملا دائرا في الألسن قبل نزول القرآن يعرفه العرب الجاهلي كما يشعر به قوله تعالى: «و لئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله»: الزخرف - 87.
و قوله تعالى: «فقالوا هذا لله بزعمهم و هذا لشركائنا»: الأنعام - 136.
و مما يدل على كونه علما أنه يوصف بجميع الأسماء الحسنى و سائر أفعاله المأخوذة من تلك الأسماء من غير عكس، فيقال: الله الرحمن الرحيم و يقال: رحم الله و علم الله، و رزق الله، و لا يقع لفظ الجلالة صفة لشيء منها و لا يؤخذ منه ما يوصف به شيء منها.
و لما كان وجوده سبحانه، و هو إله كل شيء يهدي إلى اتصافه بجميع الصفات الكمالية كانت الجميع مدلولا عليها به بالالتزام، و صح ما قيل إن لفظ الجلالة اسم للذات الواجب الوجود المستجمع لجميع صفات الكمال و إلا فهو علم بالغلبة لم تعمل فيه عناية غير ما يدل عليه مادة أله.
و أما الوصفان: الرحمن الرحيم، فهما من الرحمة، و هي وصف انفعالي و تأثر خاص يلم بالقلب عند مشاهدة من يفقد أو يحتاج إلى ما يتم به أمره فيبعث الإنسان إلى تتميم نقصه و رفع حاجته، إلا أن هذا المعنى يرجع بحسب التحليل إلى الإعطاء و الإفاضة لرفع الحاجة و بهذا المعنى يتصف سبحانه بالرحمة.
و الرحمن، فعلان صيغة مبالغة تدل على الكثرة، و الرحيم فعيل صفة مشبهة تدل على الثبات و البقاء و لذلك ناسب الرحمن أن يدل على الرحمة الكثيرة المفاضة على المؤمن و الكافر و هو الرحمة العامة، و على هذا المعنى يستعمل كثيرا في القرآن، قال تعالى: «الرحمن على العرش استوى»: طه - 5.
و قال: «قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا»: مريم - 75.
إلى غير ذلك، و لذلك أيضا ناسب الرحيم أن يدل على النعمة الدائمة و الرحمة الثابتة الباقية التي تفاض على المؤمن كما قال تعالى: «و كان بالمؤمنين رحيما»: الأحزاب - 43.
و قال تعالى: «إنه بهم رءوف رحيم»: التوبة - 117.
إلى غير ذلك، و لذلك قيل: إن الرحمن عام للمؤمن و الكافر و الرحيم خاص بالمؤمن.
و قوله تعالى: الحمد لله، الحمد على ما قيل هو الثناء على الجميل الاختياري و المدح أعم منه، يقال: حمدت فلانا أو مدحته لكرمه، و يقال: مدحت اللؤلؤ على صفائه و لا يقال: حمدته على صفائه، و اللام فيه للجنس أو الاستغراق و المال هاهنا واحد.
و ذلك أن الله سبحانه يقول: «ذلكم الله ربكم خالق كل شيء»: غافر - 62.
فأفاد أن كل ما هو شيء فهو مخلوق لله سبحانه، و قال: «الذي أحسن كل شيء خلقه»: السجدة - 7.
فأثبت الحسن لكل شيء مخلوق من جهة أنه مخلوق له منسوب إليه، فالحسن يدور مدار الخلق و بالعكس، فلا خلق إلا و هو حسن جميل بإحسانه و لا حسن إلا و هو مخلوق له منسوب إليه، و قد قال تعالى: «هو الله الواحد القهار»: الزمر - 4.
و قال: «و عنت الوجوه للحي القيوم»: طه - 111.
فأنبأ أنه لم يخلق ما خلق بقهر قاهر و لا يفعل ما فعل بإجبار من مجبر بل خلقه عن علم و اختيار فما من شيء إلا و هو فعل جميل اختياري له فهذا من جهة الفعل، و أما من جهة الاسم فقد قال تعالى: «الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى»: طه - 8.
و قال تعالى «و لله الأسماء الحسنى فادعوه بها و ذروا الذين يلحدون في أسمائه»: الأعراف - 180.
فهو تعالى جميل في أسمائه و جميل في أفعاله، و كل جميل منه.
فقد بان أنه تعالى محمود على جميل أسمائه و محمود على جميل أفعاله، و أنه ما من حمد يحمده حامد لأمر محمود إلا كان لله سبحانه حقيقة لأن الجميل الذي يتعلق به الحمد منه سبحانه، فلله سبحانه جنس الحمد و له سبحانه كل حمد.
ثم إن الظاهر من السياق و بقرينة الالتفات الذي في قوله: «إياك نعبد» الآية أن السورة من كلام العبد، و أنه سبحانه في هذه السورة يلقن عبده حمد نفسه و ما ينبغي أن يتأدب به العبد عند نصب نفسه في مقام العبودية، و هو الذي يؤيده قوله: «الحمد لله».
و ذلك أن الحمد توصيف، و قد نزه سبحانه نفسه عن وصف الواصفين من عباده حيث قال: «سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين»: الصافات - 160.
و الكلام مطلق غير مقيد، و لم يرد في كلامه تعالى ما يؤذن بحكاية الحمد عن غيره إلا ما حكاه عن عدة من أنبيائه المخلصين، قال تعالى في خطابه لنوح (عليه السلام): «فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين»: المؤمنون - 28.
و قال تعالى حكاية عن إبراهيم (عليه السلام): «الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل و إسحاق»: إبراهيم - 39.
و قال تعالى لنبيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في بضعة مواضع من كلامه: «و قل الحمد لله»: النمل - 93.
و قال تعالى حكاية عن داود و سليمان (عليهما السلام) «و قالا الحمد لله»: النمل - 15.
و إلا ما حكاه عن أهل الجنة و هم المطهرون من غل الصدور و لغو القول و التأثيم كقوله. «و آخر دعويهم أن الحمد لله رب العالمين»: يونس - 10.
و أما غير هذه الموارد فهو تعالى و إن حكى الحمد عن كثير من خلقه بل عن جميعهم، كقوله تعالى: «و الملائكة يسبحون بحمد ربهم»: الشورى - 5.
و قوله «و يسبح الرعد بحمده»: الرعد - 13 و قوله و إن من شيء إلا يسبح بحمده»: الإسراء - 44.
إلا أنه سبحانه شفع الحمد في جميعها بالتسبيح بل جعل التسبيح هو الأصل في الحكاية و جعل الحمد معه، و ذلك أن غيره تعالى لا يحيط بجمال أفعاله و كمالها كما لا يحيطون بجمال صفاته و أسمائه التي منها جمال الأفعال، قال تعالى: «و لا يحيطون به علما»: طه - 110 فما وصفوه به فقد أحاطوا به و صار محدودا بحدودهم مقدرا بقدر نيلهم منه، فلا يستقيم ما أثنوا به من ثناء إلا من بعد أن ينزهوه و يسبحوه عن ما حدوه و قدروه بأفهامهم، قال تعالى: «إن الله يعلم و أنتم لا تعلمون»: النحل - 74، و أما المخلصون من عباده تعالى فقد جعل حمدهم حمده و وصفهم وصفه حيث جعلهم مخلصين له، فقد بان أن الذي يقتضيه أدب العبودية أن يحمد العبد ربه بما حمد به نفسه و لا يتعدى عنه، كما في الحديث الذي رواه الفريقان عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك الحديث " فقوله في أول هذه السورة: الحمد لله، تأديب بأدب عبودي ما كان للعبد أن يقوله لو لا أن الله تعالى قاله نيابة و تعليما لما ينبغي الثناء به.
و قوله تعالى: رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين إه و قرأ الأكثر ملك يوم الدين فالرب هو المالك الذي يدبر أمر مملوكه، ففيه معنى الملك، و معنى الملك الذي عندنا في ظرف الاجتماع هو نوع خاص من الاختصاص و هو نوع قيام شيء بشيء يوجب صحة التصرفات فيه، فقولنا العين الفلانية ملكنا معناه: أن لها نوعا من القيام و الاختصاص بنا يصح معه تصرفاتنا فيها و لو لا ذلك لم تصح تلك التصرفات و هذا في الاجتماع معنى وضعي اعتباري غير حقيقي و هو مأخوذ من معنى آخر حقيقي نسميه أيضا ملكا، و هو نحو قيام أجزاء وجودنا و قوانا بنا فإن لنا بصرا و سمعا و يدا و رجلا، و معنى هذا الملك أنها في وجودها قائمة بوجودنا غير مستقلة دوننا بل مستقلة باستقلالنا و لنا أن نتصرف فيها كيف شئنا و هذا هو الملك الحقيقي.
و الذي يمكن انتسابه إليه تعالى بحسب الحقيقة هو حقيقة الملك دون الملك الاعتباري الذي يبطل ببطلان الاعتبار و الوضع، و من المعلوم أن الملك الحقيقي لا ينفك عن التدبير فإن الشيء إذا افتقر في وجوده إلى شيء فلم يستقل عنه في وجوده لم يستقل عنه في آثار وجوده، فهو تعالى رب لما سواه لأن الرب هو المالك المدبر و هو تعالى كذلك.
و أما العالمين: فهو جمع العالم بفتح اللام بمعنى ما يعلم به كالقالب و الخاتم و الطابع بمعنى ما يقلب به و ما يختم به و ما يطبع به، يطلق على جميع الموجودات و على كل نوع مؤلف الأفراد و الأجزاء منها كعالم الجماد و عالم النبات و عالم الحيوان و عالم الإنسان و على كل صنف مجتمع الأفراد أيضا كعالم العرب و عالم العجم و هذا المعنى هو الأنسب لما يئول إليه عد هذه الأسماء الحسنى حتى ينتهي إلى قوله مالك يوم الدين على أن يكون الدين و هو الجزاء يوم القيامة مختصا بالإنسان أو الإنس و الجن فيكون المراد بالعالمين عوالم الإنس و الجن و جماعاتهم و يؤيده ورود هذا اللفظ بهذه العناية في القرآن كقوله تعالى «و اصطفاك على نساء العالمين»: آل عمران - 42.
و قوله تعالى: «ليكون للعالمين نذيرا»: فرقان - 1، و قوله تعالى: «أ تأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين»: الأعراف - 80.
و أما مالك يوم الدين فقد عرفت معنى المالك و هو المأخوذ من الملك بكسر الميم، و أما الملك و هو مأخوذ من الملك بضم الميم، فهو الذي يملك النظام القومي و تدبيرهم دون العين، و بعبارة أخرى يملك الأمر و الحكم فيهم.
و قد ذكر لكل من القرائتين، ملك و مالك وجوه من التأييد غير أن المعنيين من السلطنة ثابتان في حقه تعالى، و الذي تعرفه اللغة و العرف أن الملك بضم الميم هو المنسوب إلى الزمان يقال: ملك العصر الفلاني، و لا يقال مالك العصر الفلاني إلا بعناية بعيدة، و قد قال تعالى: ملك يوم الدين فنسبه إلى اليوم، و قال أيضا: «لمن الملك اليوم لله الواحد القهار»: غافر - 16.
بحث روائي
في العيون، و المعاني، عن الرضا (عليه السلام): في معنى قوله: بسم الله قال (عليه السلام): يعني أسم نفسي بسمة من سمات الله و هي العبادة، قيل له: ما السمة؟ قال العلامة.
أقول و هذا المعنى كالمتولد من المعنى الذي أشرنا إليه في كون الباء للابتداء فإن العبد إذا وسم عبادته باسم الله لزم ذلك أن يسم نفسه التي ينسب العبادة إليها بسمة من سماته.
و في التهذيب، عن الصادق (عليه السلام)، و في العيون، و تفسير العياشي، عن الرضا (عليه السلام): أنها أقرب إلى اسم الله الأعظم من ناظر العين إلى بياضها.
أقول: و سيجيء معنى الرواية في الكلام على الاسم الأعظم.
و في العيون، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): أنها من الفاتحة و أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقرأها و يعدها آية منها، و يقول فاتحة الكتاب هي السبع المثاني أقول: و روي من طرق أهل السنة و الجماعة نظير هذا المعنى فعن الدارقطني عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إذا قرأتم الحمد فاقرءوا بسم الله الرحمن الرحيم، فإنها أم القرآن و السبع المثاني، و بسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها.
و في الخصال، عن الصادق (عليه السلام) قال: ما لهم؟ قاتلهم الله عمدوا إلى أعظم آية في كتاب الله فزعموا أنها بدعة إذا أظهروها.
و عن الباقر (عليه السلام): سرقوا أكرم آية في كتاب الله بسم الله الرحمن الرحيم، و ينبغي الإتيان به عند افتتاح كل أمر عظيم أو صغير ليبارك فيه.
أقول و الروايات عن أئمة أهل البيت في هذا المعنى كثيرة، و هي جميعا تدل على أن البسملة جزء من كل سورة إلا سورة البراءة، و في روايات أهل السنة و الجماعة ما يدل على ذلك.
ففي صحيح مسلم، عن أنس قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أنزل علي آنفا سورة فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم.
و عن أبي داود عن ابن عباس و قد صححوا سندها قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان لا يعرف فصل السورة، و في رواية انقضاء السورة حتى ينزل عليه، بسم الله الرحمن الرحيم.
أقول و روي هذا المعنى من طرق الخاصة عن الباقر (عليه السلام).
و في الكافي، و التوحيد، و المعاني، و تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام) في حديث: و الله إله كل شيء، الرحمن بجميع خلقه، الرحيم بالمؤمنين خاصة.
و روي عن الصادق (عليه السلام): الرحمن اسم خاص بصفة عامة و الرحيم اسم عام بصفة خاصة.
أقول: قد ظهر مما مر وجه عموم الرحمن للمؤمن و الكافر و اختصاص الرحيم بالمؤمن، و أما كون الرحمن اسما خاصا بصفة عامة و الرحيم اسما عاما بصفة خاصة فكأنه يريد به أن الرحمن خاص بالدنيا و يعم الكافر و المؤمن و الرحيم عام للدنيا و الآخرة و يخص المؤمنين، و بعبارة أخرى: الرحمن يختص بالإفاضة التكوينية التي يعم المؤمن و الكافر، و الرحيم يعم التكوين و التشريع الذي بابه باب الهداية و السعادة، و يختص بالمؤمنين لأن الثبات و البقاء يختص بالنعم التي تفاض عليهم و العاقبة للتقوى.
و في كشف الغمة، عن الصادق (عليه السلام) قال: فقد لأبي (عليه السلام) بغلة فقال لئن ردها الله علي لأحمدنه بمحامد يرضيها فما لبث أن أتي بها بسرجها و لجامها فلما استوى و ضم إليه ثيابه رفع رأسه إلى السماء و قال الحمد لله و لم يزد، ثم قال ما تركت و لا أبقيت شيئا جعلت أنواع المحامد لله عز و جل، فما من حمد إلا و هو داخل فيها.
قلت: و في العيون، عن علي (عليه السلام): أنه سئل عن تفسيرها فقال: هو أن الله عرف عباده بعض نعمه عليهم جملا إذ لا يقدرون على معرفة جميعها بالتفصيل لأنها أكثر من أن تحصى أو تعرف، فقال: قولوا الحمد لله على ما أنعم به علينا.
أقول: يشير (عليه السلام) إلى ما مر من أن الحمد، من العبد و إنما ذكره الله بالنيابة تأديبا و تعليما.
بحث فلسفي
البراهين العقلية ناهضة على أن استقلال المعلول و كل شأن من شئونه إنما هو بالعلة، و أن كل ما له من كمال فهو من أظلال وجود علته، فلو كان للحسن و الجمال حقيقة في الوجود فكماله و استقلاله للواجب تعالى لأنه العلة التي ينتهي إليه جميع العلل، و الثناء و الحمد هو إظهار موجود ما بوجوده كمال موجود آخر و هو لا محالة علته و إذا كان كل كمال ينتهي إليه تعالى فحقيقة كل ثناء و حمد تعود و تنتهي إليه تعالى، فالحمد لله رب العالمين.
قوله تعالى: إياك نعبد و إياك نستعين الآية، العبد هو المملوك من الإنسان أو من كل ذي شعور بتجريد المعنى كما يعطيه قوله تعالى: «إن كل من في السموات و الأرض إلا آتي الرحمن عبدا»: مريم - 93.
و العبادة مأخوذة منه و ربما تفرقت اشتقاقاتها أو المعاني المستعملة هي فيها لاختلاف الموارد، و ما ذكره الجوهري في الصحاح أن أصل العبودية الخضوع فهو من باب الأخذ بلازم المعنى و إلا فالخضوع متعد باللام و العبادة متعدية بنفسها.
و بالجملة فكان العبادة هي نصب العبد نفسه في مقام المملوكية لربه و لذلك كانت العبادة منافية للاستكبار و غير منافية للاشتراك فمن الجائز أن يشترك أزيد من الواحد في ملك رقبة أو في عبادة عبد، قال تعالى: «إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين»: غافر - 60.
و قال تعالى: «و لا يشرك بعبادة ربه أحدا»: الكهف - 110 فعد الإشراك ممكنا و لذلك نهى عنه، و النهي لا يمكن إلا عن ممكن مقدور بخلاف الاستكبار عن العبادة فإنه لا يجامعها.
و العبودية إنما يستقيم بين العبيد و مواليهم فيما يملكه الموالي منهم، و أما ما لا يتعلق به الملك من شئون وجود العبد ككونه ابن فلان أو ذا طول في قامته فلا يتعلق به عبادة و لا عبودية، لكن الله سبحانه في ملكه لعباده على خلاف هذا النعت فلا ملكه يشوبه ملك ممن سواه و لا أن العبد يتبعض في نسبته إليه تعالى فيكون شيء منه مملوكا و شيء، آخر غير مملوك، و لا تصرف من التصرفات فيه جائز و تصرف آخر غير جائز كما أن العبيد فيما بيننا شيء منهم مملوك و هو أفعالهم الاختيارية و شيء غير مملوك و هو الأوصاف الاضطرارية، و بعض التصرفات فيهم جائز كالاستفادة من فعلهم و بعضها غير جائز كقتلهم من غير جرم مثلا، فهو تعالى مالك على الإطلاق من غير شرط و لا قيد و غيره مملوك على الإطلاق من غير شرط و لا قيد فهناك حصر من جهتين، الرب مقصور في المالكية، و العبد مقصور في العبودية، و هذه هي التي يدل عليه قوله: إياك نعبد.
حيث قدم المفعول و أطلقت العبادة.
ثم إن الملك حيث كان مقتوم الوجود بمالكه كما عرفت مما مر، فلا يكون حاجبا عن مالكه و لا يحجب عنه، فإنك إذا نظرت إلى دار زيد فإن نظرت إليها من جهة أنها دار أمكنك أن تغفل عن، زيد و إن نظرت إليها بما أنها ملك زيد لم يمكنك الغفلة عن مالكها و هو زيد.
و لكنك عرفت أن ما سواه تعالى ليس له إلا المملوكية فقط و هذه حقيقته فشيء منه في الحقيقة لا يحجب عنه تعالى، و لا النظر إليه يجامع الغفلة عنه تعالى، فله تعالى الحضور المطلق، قال سبحانه: «أ و لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ألا إنه بكل شيء محيط»: حم السجدة - 54، و إذا كان كذلك فحق عبادته تعالى أن يكون عن حضور من الجانبين.
أما من جانب الرب عز و جل، فأن يعبد عبادة معبود حاضر و هو الموجب للالتفات المأخوذ في قوله تعالى إياك نعبد عن الغيبة إلى الحضور.
و أما من جانب العبد، فأن يكون عبادته عبادة عبد حاضر من غير أن يغيب في عبادته فيكون عبادته صورة فقط من غير معنى و جسدا من غير روح أو يتبعض فيشتغل بربه و بغيره، إما ظاهرا و باطنا كالوثنيين في عبادتهم لله و لأصنامهم معا أو باطنا فقط كمن يشتغل في عبادته بغيره تعالى بنحو الغايات و الأغراض كان يعبد الله و همه في غيره، أو يعبد الله طمعا في جنة أو خوفا من نار فإن ذلك كله من الشرك في العبادة الذي ورد عنه النهي، قال تعالى: «فاعبد الله مخلصا له الدين»: الزمر - 2، و قال تعالى: «ألا لله الدين الخالص و الذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون»: الزمر - 3.
فالعبادة إنما تكون عبادة حقيقة، إذا كان على خلوص من العبد و هو الحضور الذي ذكرناه، و قد ظهر أنه إنما يتم إذا لم يشتغل بغيره تعالى في عمله فيكون قد أعطاه الشركة مع الله سبحانه في عبادته و لم يتعلق.
قلبه في عبادته رجاء أو خوفا هو الغاية في عبادته كجنة أو نار فيكون عبادته له لا لوجه الله، و لم يشتغل بنفسه فيكون منافيا لمقام العبودية التي لا تلائم الإنية و الاستكبار، و كان الإتيان بلفظ المتكلم مع الغير للإيماء إلى هذه النكتة فإن فيه هضما للنفس بإلغاء تعينها و شخوصها وحدها المستلزم لنحو من الإنية و الاستقلال بخلاف إدخالها في الجماعة و خلطها بسواد الناس فإن فيه إمحاء التعين و إعفاء الأثر فيؤمن به ذلك.
و قد ظهر من ذلك كله: أن إظهار العبودية بقوله: إياك نعبد لا يشتمل على نقص من حيث المعنى و من حيث الإخلاص إلا ما في قوله: إياك نعبد من نسبة العبد العبادة إلى نفسه المشتمل بالاستلزام على دعوى الاستقلال في الوجود و القدرة و الإرادة مع أنه مملوك و المملوك لا يملك شيئا، فكأنه تدورك ذلك بقوله تعالى و إياك نستعين، أي إنما ننسب العبادة إلى أنفسنا و ندعيه لنا مع الاستعانة بك لا مستقلين بذلك مدعين ذلك دونك، فقوله: إياك نعبد و إياك نستعين لإبداء معنى واحد و هو العبادة عن إخلاص، و يمكن أن يكون هذا هو الوجه في اتحاد الاستعانة و العبادة في السياق الخطابي حيث قيل إياك نعبد و إياك نستعين من دون أن يقال: إياك نعبد أعنا و اهدنا الصراط المستقيم و أما تغيير السياق في قوله: اهدنا الصراط الآية.
فسيجيء الكلام فيه إن شاء الله تعالى.
فقد بان بما مر من البيان في قوله إياك نعبد و إياك نستعين الآية الوجه في الالتفات من الغيبة إلى الحضور، و الوجه في الحصر الذي يفيده تقديم المفعول، و الوجه في إطلاق قوله: نعبد، و الوجه في اختيار لفظ المتكلم مع الغير، و الوجه في تعقيب الجملة الأولى بالثانية، و الوجه في تشريك الجملتين في السياق، و قد ذكر المفسرون نكات أخرى في أطراف ذلك من أرادها فليراجع كتبهم و هو الله سبحانه غريم لا يقضى دينه.